بين الحق والباطل
شاءت حِكمة الله أن يكون في الدنيا حق وباطل، ولا يوجد أكثر من حق، ولا أكثر من باطل، ولا يوجد بينهما شيء، فإما حق أو باطل.
لكننا نعيش عالماً تعدَّد الباطل فيه، وغُيِّب أو كاد الحق، لدرجة أن هناك طُرفة عمَّن كان على الحق وقال لأخيه الذي كان على الباطل: إن اختلفنا "فالحق هو اللي يمشي"، فقال له أخوه: "ما تمشي مستني إيه"؟!
صراعاتنا الفكرية والسياسية والثقافية والاقتصادية، بل وللأسف الفقهية، بين باطل وباطل، ولو كانت بين حق وباطل لانتصر الحق واندحر الباطل (قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً).
يرى كل طرف أنه على حق، وأن غيره على باطل، فمن يدخل اللعبة السياسية، يدخلها على أساس أنه محنك، وداهية، ويفهم دهاليز السياسة، ومداخلها ومخارجها، ويزعم أنه ورث السياسسة كابراً عن كابر..!
ومن يدخل دنيا رجال المال والأعمال، يرى أنه يتمتع بعقلية تجارية، وفهم لحركة السوق، وأحوال البورصة، ويضارب وقتما يشاء كيفما يشاء بما يشاء، لأنه -كما يزعم- ورث ثروة أجداده وآبائه منذ عهد المماليك، ويتباهى بأصول والدته الشركسية، وعمته البريطانية..!
ومن يدخل عالم الفكر الرحب يجد أنه ملك الفكر وحده، وأن من حوله يدورون في فلكه، ويتعلمون منه، ويقلدونه، وأنهم سيظلون ضيقي الأفق ومحدودي الفكر، وإلى غير ذلك من الكلام الكبير الذي يدندن به المفكرون ليل نهار، بمناسبة ومن دون مناسبة..!
أما المثقف فهو في واد والدنيا كلها في واد، يرى أنه مثقف عصره وأوانه، و"وحيد" الذي يغني دائماً وأبداً على ليلاه وعمراه وغيرهما من كل البشر الذين تعلموا على كبر وتثقفوا بعده بسنوات وبينه وبينهم آلاف الأميال الثقافية، ناسياً أو متناسياً أن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة، يرى أن الثقافة ألا تَفهَم وألا تُفهِم، تكتب ما لا يُفهَم، وتقول ما لا يُعرَف، وتؤلف ما يحار في تأويله كل من يعرف لغة الضاد..!
أما الاختلافات الفقهية التي أصبحت صراعات للأسف، فحدث ولا حرج، الفتاوى ليل نهار وعلى مدار الساعة، وليتها كالصيدليات المناوبة لتخفيف آلام المرضى، بل لزيادة الشقة والخلاف، والمسألة أصبحت أشبه بحرب كل يحاول أن ينتصر فيها لنفسه، لا لدينه، ولا لدليله، ولا لكتاب ربه ولا لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم..!
المؤلم في المختلفين فقهياً أنهم لا يراعون الحد الأدنى من الفهم، ولم يسمحوا لمن اختلفوا معهم بحق الاختلاف، لأن الطرفين لم يتعلما فقه الاختلاف، ولم يتربيا على أدب الاختلاف، ولم يعيا أنه رحمة، لأن الرحمة هربت أو كادت، لتمسُّك كل طرف برأيه، والدفاع عنه بكل ما أُوتي من قوة حتى ينتصر له لو كان باطلاً..!
والحل بسيط جداً.. أن نحترم الدليل، ونفهم الدليل، ونحتكم جميعاً إلى كتاب الله وسنة رسوله، ونقول: سمعنا وأطعنا، بعيدا عن "الأنا" البغيضة التي تضخمت لدى الكثيرين منا، وأبعدتنا عن الحق لدرجة أنه أصبح غريباً، وتركنا العِزة بالإسلام، وأخذتنا العِزة بالإثم، وإلى الله المشتكى.
الحل في أن يعي المفكر دوره، والمثقف ثقافته، دون تعال، ولا غرور، ولا كِبر على من حُرموا نعمة التعليم، أو لم ينالوا حظاً من الثقافة.
لابد أن يخدم المفكر بفكره، والمثقف بثقافته، ويشاركا الناس أفراحهم وما دون ذلك، لابد أن ينزلا إلى الناس بدلاً من مطالبتهم ليل نهار بأن يصعدوا إليهما، أو على الأقل يتقابلوا في منطقة وسطى..!
على رجال الأعمال أن يعوا معنى "رجال" فيكونوا رجالاً في كسبهم، وفي إنفاقهم، وفي تجارتهم، وفي ملايينهم، وفي قصورهم قبل أن يُتَّهموا بالقصور في الفهم..!
لابد أن ينزعوا عنهم لباس التباهي بالحسب والنسب، وأن يتحلوا بلباس التقوى ذلك خير.
لابد أن يعامِلوا الناس بما يحبوا أن يعامِلوهم به، ويتيقنوا أن شكر النعمة يكون بالإنفاق، خصوصاً أن المساكين كثيرون، والمحتاجين لا حصر لهم، والمرضى يئنون ولا يملكون ثمن الدواء..!
ورغم أن للحق وجهاً واحداً وللباطل أكثر من وجه، إلا أن الحق أحق أن يتبع، لأن الحق أبلج والباطل لجلج، والحق باق مهما غاب، والباطل زاهق مهما حضر، لأن الرجال يعرفون بالحق ولا يعرف الحق بالرجال، الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، والذين يحبون أن يتطهروا، والرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.
وفي النهاية.. ماذا بعد الحق إلا الضلال؟!
محمـد عبـد المعـز