أين الوفاء؟!
أنعم الله علينا بالحياة فترة طويلة من أعمارنا بين من علَّمونا العيب، لدرجة أن على مَنْ كانت تحدِّثه نفسه بتدخين سيجارة اختلسها أن يبحث عن مكان لا يراه فيه أحد، بعيداً عن أمه وأبيه وأخته وأخيه وعمه وخاله وغير ذلك ممن تيقن أنهم قد يضبطونه بالجرم المشهود..!
كنا نعيش العيب سلوكاً، فمن العيب أن ترفع صوتك، من العيب أن ترسب، من العيب أن تقول لأحد كبار عائلتك: "لا" تحت أي مبرر.
من العيب أن تكلم فتاة في الشارع، فما بالك إذا اختليت بها؟!
مجموعة من القيم الشرعية تعلمها أهلونا بالفطرة وعلمونا إياها بالحب، لنرسخها في عقول وقلوب ونفوس أبنائنا.. تندرج كلها تحت عنوان: "العيب".
لماذا العيب؟!
لأن ما نراه ونسمعه من انفلات متعدّد الأوجه والأشكال والأنواع، يعود إلى اختفاء "العيب"، فالابن الذي يعق أباه أو أمه لا يعرف العيب، والأب الذي يسيء إلى ابنه لا يعرف العيب، والأم التي تنادي ابنتها بألفاظ لا تليق لا تعرف العيب، والأخ الذي لا يحترم أخاه لا يعرف العيب، والأخت التي "تردح" لأختها في الشارع لا تعرف العيب..!
والأمثلة لا حصر لها، فالطالب لا يحترم معلمه لأنه لا يعرف العيب، والعامل لا يحترم مديره لأنه لا يعرف العيب، والناس في حيرة من أمرهم..!
لماذا اختلط الحابل بالنابل؟ فَقَدَ الأب احترام أبنائه والأبناء كذلك، والإخوة والأخوات، والرئيس والمرؤوسين، والدنيا بأسرها؟!
لاختفاء "العيب"..
لأن العيب خرج ولم يعد..!
لأن العيب خرج من نفوسنا وقلوبنا وعقولنا، قبل أن يذهب إلى غير رجعة..!
صُدِمت بأخ "يأكل" أخاه عمداً، دون أن يشعر بألم أو مغص في بطنه، وأخ يقاضي أخاه في المحاكم دون أن يرف له جفن، وأب يرفع دعوى على أبنائه للحصول على حكم يلزمهم بالإنفاق عليه لعجزه عن العمل ولا مورد له، واندهشت من أبناء يرفعون دعوى حجر على أبيهم خشية ضياع جزء من الميراث..!
كل ذلك في وادٍ وما حدث من هذا الابن الذي يقاضي أباه، في وادٍ آخر، بعد أن أسمع الابنُ أباه ما لا يطيق سماعه، وأراه ما لا يقدر على رؤيته، وأساء إلى صورته أمام الناس ناكراً أصْلَه الذي استمد اسمَه ونسبَه وأصْلَه وفَصْلَه مِنه، وفَصَلَه عن حياته مستعجلاً بذلك موت الأب كمداً أو قهراً أو بالاثنين معاً..!
ستقولون جميعاً: ما الغريب في ذلك؟!
كل يوم نسمع عبر الفضائيات، ونقرأ عبر الصحف، خصوصاً "الحوادث" ونتابع عبر المواقع جرائم أبشع، وحوادث يندى لها الجبين؟!
أتفق معكم، لكن في الصوالح، في أرض الصالحين، في أهل الخير والكرم والمبادئ والقيم؟!
لا وألف بل مليون أو مليار أو تريليون لا...!
لا يمكن أن يخدش الابنُ حياء أبيه، لا يمكن أن يذكره بسوء أو يسمح لأحد بذلك، لا يمكن أن يجور الأخ على أخيه، لا يمكن أن تسمع الأختُ من أختها لفظاً يسيء إليها، لا يمكن، لا يمكن، لا يمكن.
نحن جزءٌ من كل، لسنا بلداً منعزلاً، أو مجتمعاً منغلقاً، أو قرية غافلة، رغم أننا نسمع ليل نهار عن مشروع القرية الذكية، ومشروع الألف قرية، ومشروع الألف مشروع، ولا نرى شيئاً على أرض الواقع..!
لسنا جزيرة معزولة عن أمنا الكبيرة مصر، لكننا ريفيون، فلاحون، أصلاء، نعيش بالستر ونعرف العيب، ننكر المنكر بالفطرة، فطرة الله التي فطرنا عليها، نتعاون لأن الله أمرنا "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان"، نعرف النخوة فينصر بعضنا بعضاً، نعرف النجدة فنمد أيدينا لمن يستغيث بنا، نعرف الوحدة فنقف صفاً واحداً، نعرف الشهامة فلا نتوانى عن التهنئة ولا نقصر في العزاء، وفي الاثنين نفرح معاً ونحزن معاً، لأننا قرية كلها خير، شوارع كلها أصول، بيوت كلها قيم ومبادئ.
لابد من استعادة العيب حتى نستعيد كرامتنا، لابد من تمثُّل العيب سلوكاً، قولاً وفعلاً.
صدِّقوني.. لا بر، ولا احترام، ولا أمانة، ولا تعاون، ولا حب إلا بسؤال أنفسنا جميعاً:
هل ما نفعله عيب؟!
إذا كان عيباً اجتنبناه، وإذا لم يكن عيباً فذلك يعني أننا وضعنا أقدامنا على أول الطريق وعُدنا إلى رصيف السلام الذي يوصل إلى بر الأمن والأمان وبيت والحب والعطف والحنان وشارع الوفاء في عصر ندر فيه الأوفياء.
في الختام.. آبائي، أمهاتي، إخوتي، أخواتي، أبنائي، بناتي: أين الوفاء؟!
الإجابة: أين العيب؟!
محمـد عبـد المعـز