من أكثر الموضوعات التي اختلف عليها المحللون والنقاد معاهدة كامب ديفيد، والتي اتفقت فيها مصر مع الكيان الصهيوني على وقف حالة الحرب، وإرساء السلام بين الطرفين، وذلك برعاية أمريكية في يوم 26 من مارس سنة 1979م.
معاهدة كامب ديفيد
لقد عارض الكثيرون، وأيَّد الكثيرون كذلك، وكلٌّ له حُجَّته، وكلٌّ يعرض وجهة نظره، وتوقعاته للنتائج..
وكان المجال في ذلك واسعًا أولَ الأمر، ولكن مع مرور الزمن، بدأت تتكشّف الأمور، وتحولت الظنون إلى حقائق، وظهرت النتائج جلية.. إننا الآن بعد ثلاثين عامًا من سلام كامب ديفيد نستطيع أن نقوِّم التجربة، ونضع أيدينا على السلبيات والإيجابيات، وليس الحديث حديث العواطف، إنما هو حديث الأرقام والأدلة والمعلومات.
ماذا حدث في هذه الأعوام الثلاثين؟!
أولاً: حدث تطور خطير جدًّا في ملف الصراع العربي الصهيوني، وهو الاعتراف الرسمي بدولة إسرائيل، وهذه كارثة أضخم من تخيُّلاتنا، فهي إقرار بملكية الأرض الفلسطينية لليهود، وفيها أعلنت مصر أنها ترغب في استرداد أراضيها في مقابل التنازل عن 78 % من مساحة أرض فلسطين، واعتبرت ذلك شيئًا من الواقعية، ولم يتوقف الأمر عند مصر، بل كانت هذه البداية، ثم أعقب ذلك بسنوات اعترافُ الأردن والمغرب وتونس وجيبوتي وقطر وموريتانيا، بل اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بالكيان الصهيوني، مضيِّعةً بذلك آمال الملايين من المهجَّرين خارج أرض فلسطين. لقد كنا قبل كامب ديفيد نتحدث عن قضية الوجود الصهيوني في فلسطين، ثم صرنا بعدها نتكلم عن الحدود والمستوطنات، وشتَّان!!
ثانيًا: نصَّت معاهدة كامب ديفيد على تحديد عدد أفراد الجيش المصري في سيناء، وقسَّمت سيناء إلى ثلاث مناطق طولية؛ منطقة (أ) في غرب سيناء، وهذه يُسمح فيها للمصريين بقوات لا تزيد على 22 ألف مقاتل. ومنطقة (ب) في الوسط ليس فيها إلا أربعة آلاف جندي من حرس الحدود بأسلحة خفيفة. ثم منطقة (ج) في شرق سيناء، وهي ملاصقة لدولة فلسطين المحتلة بإسرائيل، وهذه ليس فيها إلا قوات شرطة فقط، وبينما يُسمح للقوات العسكرية المصرية أن تبقى فقط في غرب سيناء، فإن القوات المسلحة اليهودية توجد على بُعد خمسة كيلو مترات فقط من الحدود المصرية الشرقية؛ مما يعني أن أي هجوم على سيناء سيعرِّضها لاحتلال سريع مباغت. ولعلنا نأخذ في الاعتبار أن اليهود احتلوا سيناء في 1956م في ثلاثة أيام، واحتلوها في 1967م في ست ساعات، ففي كم من الوقت سيحدث الاحتلال الآن، والفارق بين القوَّتين العسكريتين يتسع جدًّا لصالح اليهود كما سنبيِّن لاحقًا؟!
إن المتدبِّر في الوضع بعين الإنصاف يدرك أن سيناء - وإن كانت خالية من الجنود الصهاينة الآن - على خطر عظيم، وليس هناك معنى للشعارات العنترية التي تطمئن الشعوب العربية والإسلامية أن سيناء في أمانٍ؛ فإن العاقل من قرأ تاريخه، وتدبَّر واقعه!
ثالثًا: تم فصل مصر عن العرب والمسلمين يوم وُقِّعت هذه المعاهدة، بل قبل التوقيع بأشهر خمسة عقدت القمة العربية في بغداد في 2 من نوفمبر 1978م وأعلنت رفضها لكامب ديفيد، وتعليق عضوية مصر، ومقاطعتها تمامًا، وتم نقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس، واستمرت هذه المقاطعة 9 سنوات كاملة حتى عادت العلاقات في 8 من نوفمبر 1987م بالقمة التي عُقدت في عمان، وحتى هذه العودة للعَلاقات لم تكن كاملة، إنما كانت مع ثمانية دول فقط، ولم تكن هذه العلاقات قوية نشطة، بل كانت فاترة. ولعلنا نلمس أثر ذلك حتى زماننا الآن، ونشاهد نتائجه على مؤتمرات القمة العربية، وفقدت مصر بذلك رصيدًا كبيرًا في قيادة العالم العربي، وضيَّعت إيجابيات الوَحدة المهمَّة التي حدثت بعد حرب 1973م، وبدأت تبحث عن بدائل لا معنى لها، لدرجة أنه ظهرت حركة ثقافية أيام المقاطعة العربية تدعو إلى نبذ العروبة والإسلامية، والاتجاه إلى الفرعونية والوطنية، وقاد هذه الحملة توفيق الحكيم ولويس عوض وأنيس منصور وغيرهم، ولا شك أن هذا تفتيت هائل للأمة يصبُّ في الأساس في مصلحة اليهود.