هرع الناس إلى مصدر صوت صراخ عال و مشادات كلامية, بين رجل يتحدث العربية الفصحى بطلاقة و جندي إسرائيلي يتحدث بعبارات الصهيونية الهجومية, إرتفع صوت الصراخ و ازداد حجم الجمهور و هم ينتظرون مصير ذلك الرجل العربي ,و هو يقف بشجاعة أمام جنود العدو الإسرائيلي, سادت لحظة صمت و أوشك الجندي على إطلاق النار على ذلك الرجل, و كاد إصبعه أن يدوس على الزناد , إلا أن الأقدار شاءت غير ذلك, و بدم عربي ثائر, وقف رجل بالخمسين من عمره , بردائه الأسود الطويل, و صليب خشبي يتدلى على صدره و وقار رجل دين حائلا بين فوهة البندقية و صدر ذلك الرجل, و بكلمات حكيمة و سرعة بديهة, طلب من الجندي أن يعدل عن قراره ,و اخذ يشير إلى رداء ذلك الرجل و غرابته, و أكد له بكلمات عبرية بأنه مجنون و لا يعي ماذا يفعل.
ما كان من الجندي إلا أن عدل عن رأيه, و أشار للراهب أن يأخذ ذلك الرجل و يتركوا المكان على الفور, فما كان من الراهب إلا أن امسك بلجام حصان ذلك الرجل و أخذه معه بعيدا, وسط سخط الرجل و غضبه و أنفض الزحام كل إلى سبيله.
فرس عربية أصيلة, و لباس حرب قديم, و رجل بدت عليه علامات القيادة و الرجولة,و غمد سيف تزينه زخرفات عربية قديمة, نظرات حكيمة تشع من عينيه, و غضب و استغراب يملأ وجهه لما صادف من موقف في باحة المسجد الأقصى ,ربط الرجل الفرس بعمود خشبي قريب من مدخل كنيسة القيامة, وقدم له بعض الماء و هدأ من روعه حتى هدأت أنفاسه و تمالك الرجل أعصابه , وما كان ذلك حتى ابتدأ الراهب بأسئلة كثيرة :ماذا كنت تفعل هناك؟ و ما هذا اللباس القديم؟ و لماذا تحمل سيفا ؟ و من أنت ؟؟
أجابه الرجل بكل كبرياء و عزة : أنا السلطان صلاح الدين الأيوبي !! كنت ذاهبا للصلاة في المسجد الأقصى, و هذا لباس العرب, فمالكم تتعجبون منه؟ و لماذا منعني ذلك الرجل من أداء فريضتي؟ و من هو؟ بدت علامات التصديق و الشك على وجه الراهب في آن واحد, فالسلطان مات منذ مئات السنين و لكن هذا الرجل يحمل معالم فارس من غير هذا الزمان, و حصانه و سيفه و لباسه تدل على صفات السلطان، قطع السلطان حيرة الرجل و حبل أفكاره و حلف برب الكون و من خلقه في ستة أيام بأنه السلطان صلاح الدين الأيوبي محرر القدس .
حينها تنهد الراهب طويلا, و أطلق زفيرا يدل على حرقة قلب و حزن شديدين, و ابتدأ كلامه : لقد احتل الصهاينة القدس, ولم تعد هذه الأرض لنا إلا في عقولنا و قلوبنا, بحد السيف و القهر فرقوا شملنا و اغتصبوا أرضنا, فلم نعد نسمع مؤذن لصلاة ولا جرسا لكنيسة تدق في رواق المدينة القديمة, و تشتت شعبنا و أهلنا في نواحي الأرض و لم نعد نعرف من القدس إلا اسمها, فحرمونا من أداء صلاتنا و مناسكنا, و هم يبكون تحت حائطهم متى شاءوا.
لقد سلبونا أقل حقوق العيش, و الآن يقيمون الحفريات تحت المسجد الأقصى لإقامة هيكلهم المزعوم, و هنا سأله السلطان بدهشة:أين العرب و المسلمون؟ لماذا لا يدافع أحد عن حقه و عن قدسنا؟ لقد وقفنا مسلمون ومسيحيون في وجه كل من عادى قدسنا و حاول تدنيس أرضها !! زاد هم الراهب و اخرج نفس من صدره كنار تخرج من فوهة بركان غاضب, و أضاف : إننا نقف في وجه جيش يدعمه اكبر رؤوس أموال في العالم و تنصره كل البلدان, فأصبحنا لا حولا لنا ولا قوة, و تفرق العرب والمسلمون و أصبح كل مشغول في هم بيته و نسي فلسطين و قبة الصخرة, ولا بهمنا إلا ملذات الدنيا, و ها نحن كل يوم تؤكل من أرضنا قطعة و يضيع حق أصحاب الدار و يسلبه منا عدو غدار.
سالت دموع السلطان فوق وجنتيه السمراوين, و نظر إلى السماء رافعا يديه بالدعاء لله عز وجل, و امسك الراهب يده و صبره ببعض كلمات و قال له :إن الله معنا و سينصرنا.
إستيقظ السلطان فجأة من نومه على صوت آذان الفجر و دقات كنيسة القيامة, و دخل احد حراسه عليه ليطمئن على حاله, و سأله : ما بال مولاي السلطان؟ فأجاب : لقد رأيت مناما مزعجا. فسأله : و ما هو كفاك الله شره؟ فقال و غصة تملأ حنجرته: أن القدس ضاعت منا. ضحك الجندي بغرابة شديدة !! و قال:كيف تضيع القدس منا و السلطان صلاح الدين قائدنا؟ فأجاب: ستضيع منا في زمان غير زماني, وفي عهد غير عهدي, فلا تقام شعائر أو صلوات و يتفرق العرب جميعا. فما كان من الجندي إلا أن احضر وعاء ماء ليتوضأ السلطان, وقال له: قم فصلي لربك ركعتين و تعوذ بالشيطان مما رأيت, فما حلمت به صعب الحدوث و اجزم بأنه مستحيل,نظر إليه السلطان و عيون تملؤها الخوف من المستقبل وقال : إن شاء الله. [i][u]