إن مع العسر يسراً
تضيقُ الدنيا أحياناً بالإنسان، ينفض الناسُ من حوله، يرى الدنيا أصغر من أحلامه، والواقع ظلمات بعضها فوق بعض، مع أنه لا يريد أن يلجَ الجملُ في سم الخياط..!
يتحرك في دائرة غريبة، فيبدأ من حيث انتهى، وينتهي إلى حيث بدأ، يجد نفسه رد فعل، لا يحرِّك ساكناً، لدرجة أنه عجز عن إلقاء حجر في مياهه الراكدة، وأصبح هدير أمواجه الذي أسمع الدنيا صوتاً خفيضاً يخفت شيئاً فشيئاً حتى يكاد لا يسمع إلا نفسه..!
أصبح يتحدَّث عن الماضي، ويتغنى -كالكثيرين- بحضارة عمرها سبعة آلاف سنة، وعن تاريخه المجيد في الكفاح، وغزواته ونزواته في الحب، وآرائه ونظرياته في الفكر، ومؤلفاته وقصصه ورواياته في الثقافة، و... و... و... لأنه لا يملك إلا الماضي، ورغم أنه رائع بكل ما فيه ومن فيه، إلا أنه يجب أن يخدم الحاضر، ويدفع إلى المستقبل، بترابط يعترف للماضي بما كان، وللحاضر بما يكون، وللمستقبل بما سيكون، لأن "من لا ماضي له لا حاضر ولا مستقبل له".
أصبح عصبياً مع القريب والغريب، ومتوتراً مع العزيز والحبيب، وثائراً مع الحليم واللبيب بعد أن كان بالإشارة يفهم..!
لماذا؟
الناس لم ولن يتغيروا، فلماذا تشغل بالك بهم، وتظلم نفسك معهم، بل وتظلمهم معك أحياناً؟!
البشر كما هم، مشغولون بأنفسهم.. (شغلتنا أموالنا وأهلونا) ونسوا في غمرة انشغالهم أن يقولوا: (فاستغفر لنا)..!
لماذا لا تغيِّـر نفسك، نمط تفكيرك، نظرتك للأمور وللناس ومن حولك؟!
لماذا تبالغ في أملك في يائسين بائسين لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً؟!
لماذا تتوقع الخير ممن لا خير فيهم، والمساعدة ممن خصصوها للمقربين من أهلهم ومعارفهم وذويهم؟!
لماذا لا تنظر إلى حكمة الله فيك، ثم في من حولك، ثم في العلاقة بينكم؟!
لماذا ونحن في الدنيا، دار الكد والكدر، والمواقف والعِبَر، ومعظم النار من مستصغر الشرر؟!
لماذا تضع بيضك كله في سلة الناس ثم تبحث عن "كتاكيت" و"حمام" مع أن الناس لا يعبأون ببيضك الذي انكسر بعدما رموه في سلة المهملات؟!
لماذا تتخيل نفسك "دونكيشوت" وتحارب طواحين الهواء مع أن الناس على الأرض يستخدمون كل الأسلحة في حرب الحياة التي لا ترحم؟!
لماذا تطلب السلام مع أناس ليسوا في سلام مع أنفسهم قبل غيرهم؟!
لماذا تكبل نفسك بقيود "المعارف" وتحبس نفسك في سجن "العشم" مبعداً نفسك عن المعرفة بالله والعشم فيه؟!
لماذا تلهث وراء من تظن أنه سيحل مشكلتك، وتقطع المسافات للوصول إلى ما ليس في يدك ولا في يده، وما هو ولا أنت إلا أسباب؟!
لماذا تنقم أحياناً، وتنفخ أحياناً، وتثور أحياناً، وتعمل من "الحبة قُـبة" مع أنك واثق أن النقمة والنفخ والثورة والحبة والقبة بيد من لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء؟!
لماذا لا تقهر الظروف بدلاً من أن تمنحها كل الوسائل لقهرك؟!
لماذا لا تكون صلباً، واثقاً في الله ثم في نفسك، وتدع الملك لمالكه؟!
لماذا لا تنهض من سباتك وتعود إلى ثباتك؟!
لماذا لا تعود إلى صوابك قبل أن تفقد صوابك؟!
لماذا لا تصبر في مواجهة هذا الابتلاء لتمحيصك، وتخليصك، وتنقيتك؟!
رأيت الناسَ قد مالوا إلى من عنده مالُ
ومن ليس عنده مال فعنه الناسُ قد مالوا
رأيت الناسَ قد ذهبوا إلى من عنده ذهبُ
ومن ليس عنده ذهب فعنه الناسُ قد ذهبوا
رأيت الناسَ منفضة إلى من عنده فضة
ومن ليس عنده فضة فعنه الناسُ منفضة
يقول اللهُ عزَّ وجل في كتابه العزيز، وهو أصدقُ القائلين: (فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً)، وما غلب عسرٌ يسرين.
لابد من الشكر على ما أنت فيه (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) ليزيدك الله من نعمه (وسيجزي الله الشاكرين).
لابد من اللجوء إلى الله (وما توفيقي إلا بالله).
محمـد عبـدالمعـز