نور ونار..!
هناك أناسٌ يعيشون ويموتون ولا يشعر بهم أحد، وهناك من يُسمعون الدنيا ويملأونها ضجيجاً أحياءً وأمواتا..!
والغريب في اسمه لم يكن غريباً على أحد، وكذلك لم يكن أحدٌ غريباً عليه، لأنه ارتبط بالناس، وبدأً ذلك الارتباط بدخول "النور" إلى الصوالح.. هكذا كانوا يقولون لنا عندما منَّ الله علينا وهدى لنا أولي الأمر فسمحوا وتفضَّـلوا وتكرَّموا وتنعَّموا علينا بتوصيل التيار الكهربائي إلى قريتنا الحبيبة..!
ورغم أن فترات انقطاع التيار كانت أطولَ من فترات توصيله، إلا أننا كنا نعزِّي أنفسنا بأن الكهرباء أفضل من نور اللمبة نمرة خمسة أو أختها الكبرى نمرة عشرة.. أو أفضل من نور أخيهما غير الشقيق "الكلوب" الذي كان رفاهية بعيدة عن أيدي وأعين الكثيرين منا..!
لم يكن غريباً ارتباطنا كطلبة بعمنا "غريب" لأن الفرق كبير بين الدراسة على ضوء الشمعة أو اللمبة أو الكلوب، والدراسة تحت لمبة 100 وات أو نيون لدى من أنعم الله عليهم بها، فكنا نحاول إرضاءه قدر استطاعتنا، ليوصل التيار أحياناً، ويتعلَّل بأنه مقطوع "من فوق" أحياناً وكنا نحمد الله على الاثنين خصوصاً عندما نفقد الأمل في الكهرباء فنقضي الليل بين حكايات الشباب، والأسرار التي لا مجالَ للبوح بها إلا وجهاً لوجه!
أقول ذلك لكي يحمد الشبابُ والفتياتُ اللهَ على نعمه التي لا تُعدُّ ولا تُحصى عليهم من هواتف بيوت وموبايلات وكمبيوتر وإنترنت وتسجيلات وسي دي ودي في دي وغير ذلك، وأدعو الله لهم جميعاً بحُسن استخدام تلك النعم في ما سخرها الله له.
غريب الكهربائي، هكذا اشتُهر بيننا، وهكذا عاش، أنار للكثيرين بيوتهم، فأنار بذلك قلوبَهم وعقولَهم بالعلم والمعرفة، لأن الكهرباء سبب، وأصبحت في حينها حُجة على طلاب اللمبات والشموع والكلوبات.
تحمَّل كثيراً وضحى بجهده ووقته وزوجته وابنتيه لأن الصوالح بأسرها لم يكن فيها إلا غريب واحد وكهربائي واحد ونور واحد..!
من يذهبون إليه على البيت فاقوا طاقة البشر، وكان "غريب" بحاجة إلى أن يكون اليوم 48 ساعة كي يتمكن من حل مشكلات الكهرباء وما أكثرها في البداية في صوالحنا الطيبة، لدرجة أن مكبرات الصوت كانت تناديه كي يلحق بسلك عار يعوقُ مرورَ الناس في أحد الشوارع، أو محوِّل يشتعل قد يحرق منطقة بأكملها بما فيها ومن فيها..!
لم يكن ذلك غريباً لأننا ليس لدينا منقذ إلا غريب.. كنا نتحامل عليه أحياناً، ونُشفِق عليه أحياناً، ونتمسح بقرابتنا إليه أحياناً كي يشرفنا بعجلته وهو في عجلة من أمره.. اشرب الشاي يا أسطى.. "لا والله ما أقدر.. محوِّل الهواوشة، الكهرباء مقطوعة عن مزرعة...... حرام الفراخ"... ويعيد الكرَّة من شارع عبيد إلى الفيايضة، ومن الوحدة إلى الهواوشة، ومن السناجرة إلى الملقة "الوسية".
قطع عمنا غريب الصوالح كثيراً ليوصل إليها الكهرباء، وجابها بقلبه قبل دراجته لتغطية سلك عار قد يهلك من يلمسه، كان يحمل همَّ ليالي الامتحانات كأب، وكم دخل امتحانات ونجح فيها بفضل الله ثم بجهده وإخلاصه وأثرته.
مرضٌ غريبٌ أصاب عمَّنا غريب فأخذ منه ما أخذ وتركه يعاني قبل أن تصعد روحه إلى بارئها قبل رمضان بساعات لنعزِّي رمضان أخيه في أخيه وأبيه "غريب".
عمنا غريب.. أنرت الصوالح فأظلمت بوفاتك، فأسأل الله أن يجعل قبرك روضة من رياض الجنة ولا يجعله حفرة من حفر النار.. اللهم تغمده برحمتك، وأبدِله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله.
اللهم إن كان محسناً فزِد في حسناته، وإن كان مسيئاً فتجاوز عن سيئاته.
اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله.
محمـد عبـد المعـز